اللوحة .. قصة لأدجار الآن بو .. الترجمة من النص الانجليزي الى العامية المصرية لبهاء عواد
.
جبال الابنين في ايطاليا ، كان واحد من القصور المهجورة المنسية من زمن ، المتناثرة هناك بين الوديان ، مدام رادكليف كان رأيها انه باين من منظره ان اصحابه هجروه من فترة مش بعيدة ، بل و يمكن كمان بصورة مؤقتة ، الخدام كان لازم يكسر الباب بالقوة علشان نقدر ندخل ، و اعفاني بده من قضاء ليلة صعبة في الهواء الطلق ، و انا في حالة مرهقة و منهكة ، استقرينا في واحد من اجنحة القصر الاصغر حجما .. و الاقل فخامة في الاثاث .. موقعها منه في مكان متوسط محوري ، اثاثها كان ثري ، و مع انه واضح انه اثاث غالي ، لكن كان شكله اثري و متبهدل .. الحيطان كانت متزينة بالنقوش و متغطية با انسجة ، و منتشر عليها النياشين و الاوسمة و اللوحات التذكارية ، كل ده مع عدد كبير - غير طبيعي - من اللوحات التشكيلية اللي بتجسد مدارس من الفن الحديث ، كلها محطوطة في براويز ذهبية راقية ، مش بس على الحيطان الرئيسية ، لكن كمان الاركان و المنحنيات اللي بتشكل التصميم العجيب للقصر ، كلها متغطية باللوحات ، كل ده اثار اعجابي بشدة .. لدرجة ان دماغي لفت ... كمان لقيت كتيب صغير بيشرح اللوحات نفسها و اسماء الرسامين ، قلت لبدرو يقفل الباب الثقيل للاوضة اللي انا استقريت فيها ، و بما ان الوقت بقا ليل ، قلت له يولع الشمعدان الكبير ، اللي كان محطوط جنب السرير بالظبط ، و يقفل كل الستاير .. و يشيل كمان الناموسية اللي حوالين السرير .. قلت كده اقدر استمتع بالفرجة على اللوحات .. كانت جميلة لدرجة تفوق الوصف ، و اتصفح في الكتيب لغاية ما يجي النوم .
قريت طويلا .. طويلا ... قريت قراية طويلة و متعمقة .. قريت بذمة و بتركيز .. و انا با اتفحص مع القراية اللوحات نفسها و اقارنها باللي مكتوب .. الوقت طار طيران ، لغاية ما حل منتصف الليل بكامل عمقه ، موقع الشمعدان ضايقني ، كنت با امد ايدي بصعوبة علشان يقع ضؤ الشمع عالصفحة ، و بدل ما ازعج الخدام اللي اكيد مرهق و بيستريح ، قلت اغير انا موقع استلقائي على السرير ، بحيث يقع ضؤ الشموع مباشرة على الكتيب .. اللي حصل ان الحركة نتج عنها اثر غير متوقع بالمرة ، ضؤ الشمعدان .. و كان شموعه عددها كبير ، لقيت اشعتها استقرت في زاوية من الغرفة ما كنتش عيني وقعت عليها قبل كده .. زاوية منسية بين ظلال اعمدة السرير ، و لقيت عيني بتقع على لوحة ما لاحظتش وجودها نهائيا ، كانت صورة لبنت في مقتبل العمر ، عبرت بنظري عاللوحة بسرعة .. و بعدين قفلت عيني .. ليه قفلت عيني ؟ السبب اللي خلاني اقفل عيني ما كانش واضح حتى في ذهني انا شخصيا .. لكن في الفترة اللي كانت عيوني فيها مقفولة ، ادركت بيني و بين نفسي السبب اللي خلاني اغمضهم فجأة !
كانت حركة لا ارادية بيوفر فيها الذهن لنفسه وقت للتفكير .. وقت للادراك .. للتأكد ، من ان نظري ما خدعنيش ، وقت علشان اهدا فيه ، و اجهز نفسي لنظرة تانية اعمق و اوضح .... بعد لحظات قليلة .. وجهت نظري تاني بتركيز على اللوحة . اللي انا شايفه دلوقت بشكل واضح و مباشر ، مش ممكن ابدا عقلي يشك فيه ، الشعاع اللي وقع من الشمع على قماشة اللوحة .. بدد في لحظة خدر النوم اللي كان بدأ يتسلل لجفوني ، و رجعني فجأة و بشكل نهائي .. الى حالة كاملة من اليقظة . اللوحة .. انا قلت ده قبل كده .. كانت لبنت في مقتبل العمر ، بورتريه علوي بس للوش و الاكتاف ، ستايل ايطالي شهير ، غني في التفاصيل .. الذراعين ، الصدر ، حتى نهايات الشعر اللامع .. كل ده تدريجيا بيدوب في ضل غامق و عميق بيشكل الخلفية الغامضة للّوحة ، البرواز كان بيضاوي .. لونه دهبي غني ، و مزخرف بالكورسيه .
لو ح نتكلم عن الفن ، ما فيش حاجة ممكن تكون مثيرة للاعجاب فيها اكثر من فن التصوير نفسه ، بس مش ممكن يكون الدقة و الاحترافية الواضحة في العمل .. و لا الجمال الهادئ الخالد في هذا المحيا المرسوم .. .. و لا الغرابة و الغموض في التصميم ، في التظليل خصوصا .. في اللوحة بكاملها قماش و برواز ، مش ممكن كل ده يفسر حقيقة ..... ان في حالتي دي مع اقتراب النعاس .. لوهلة خاطفة جدا اول ما عيني وقعت عاللوحة ... تصورت ان الوش ممكن يكون لأنسان حقيقي ! المفروض ان وجود الوش بين برواز ، حقيقة وجود اللوحة على الحيطة في بروازها الغني في تصميمه ، يكون منع اي تصور بهذا الشكل مهما كان سريع و خاطف ، و مهما كانت جفوني مقرب منها النعاس ، لكن حقيقة ان في وهلة خاطفة جدا ، تصورت فعلا رغم كل ده ان الوش لأنسان حقيقي عايش و بيتنفس ، الحقيقة دي .. هي اللي خلتني .. و لمدة يمكن تزيد عن الساعة ، خلتني استقر على حافة السرير و رجلي لامسة الارض ، نص واقف و نص قاعد ... و نظرتي بالكامل متثبتة على اللوحة . في النهاية .. بعد ما حسيت با اني متأكد من عمق السر اللي بتأثر به اللوحة في اللي بيشوفها .. استلقيت على السرير تاني ، اكتشفت ان التعويذة السحرية الخاصة باللوحة دي ، موجودة في الانطباع المرسوم على الوش ، انطباع مؤكد بالسعادة ، بالاعجاب بالحياة .
في الاول بيفاجأك الانطباع ، و بعدين بيربكك .. انطباع هادئ مستخبي بين تفاصيل الوش ، بيتسلل ليك ، لغاية بعد المفاجاة و بعد الارباك .. في الآخر بيأسرك و يملكك . و انا في حالة عميقة من الرهبة ، رجعت الشمعدان تاني لموقعه السابق ... و بالتالي .. السبب في الاثارة الكبيرة اللي انتابتني .. بقى خارج نطاق الرؤية ... فكرت ان الكتيب اللي بيشرح اللوحات و تاريخها اكيد متكلم عن اللوحة دي ، دورت في صفحاته بشغف على الرقم المتثبت على البرواز .. لغاية ما لقيت الفقرة المكتوبة عن اللوحة .. اتعدلت في السرير .. و على الضؤ الخافت للشموع ... قريت الكلمات الغامضة و المثيرة التالية :
- كانت عذراء من نوع نادر من الجمال .. على قد ما كانت جميلة .. كانت محبوبة و اي مكان بتروحه بتملاه بالسعادة و الغبطة ، و شريرة و حزينة كانت اللحظة اللي شافت فيها الرسام و وقعت في حبه .. و اتجوزته .. هو من الناحية التانية . .. كان طموح .. مجتهد و مواظب على الارتفاع بموهبته .. متزمت في غروره و فخره بالحد اللي واصلة له الموهبة دي ، هي .. جميلة من نوع نادر من الجمال .. محبوبة بتملا كل مكان تروحه بالبهجة .. وشها مشرق دايما بالنور و الابتسام .. مليانة بالدلال و الفرح بحب عريسها الفنان ليها .. الحاجة الوحيدة اللي كانت واقفة في طريق السعادة الكاملة عندها ، كانت : الفن .. الفن كان ضرتها ! الفرش و الالوان و عدة الرسم .. هي دي الحاجات اللي كانت حارماها من اهتمام جوزها و حبيبها الكامل .. هي دي الحاجات اللي كانت حاسة ان الجزء الاكبر من وجدانه متجه ليها .. اكثر حتى منها هي .. اكثر من زوجته و حبيبته .. علشان كده كان صعب بالنسبة لها انها تسمعه بيطلب منها انه يرسم لها هي نفسها بورتريه .. لكن مع ذلك .. قعدت علشان يرسمها بتواضع و امتثال .. لاسابيع و اسابيع طويلة .. في البرج العالي من الفيللا .. البرج اللي كان الرسام عامله اتيليه .. مخصصه للرسم با ضائته الخفيفة اللي جاية من السقف ، قعدت لاسابيع قدامه بسكون و طاعة ، بينما هو .. اللي كان معتز جدا بمجده الشخصي في الرسم .. واصل العمل في اللوحة بتركيز كامل ، ساعة بعد ساعة ، و يوم بعد يوم و اسبوع بعد اسبوع ، كان فنان طموح ، طموح متوحش من غير حدود ، حط كل طموحه و فنه في اللوحة ، غاب عن الوجود بالكامل في الفترة اللي كان بيشتغل فيها ، ما كانش فيه حاجة في الدنيا ممكن تلفت انتباهه غير الريشة و الالوان و اللمسات اللي كان بيضيفها عاللوحة ، ما لحظش في الاضاءة الخافتة اللي نازلة من السقف .. التغير اللي بدأ يحصل على وش حبيبته ، التغير اللي بدأ يزحف من روحها و يبهت على وشها ، كله لاحظ الشحوب اللي بدأ يظهر على وش العروسة .. كله الا الفنان اللي كان تركيزه الكامل في الدنيا مصبوب عاللوحة ، و رغم الشحوب .. استمرت تقعد قدامه يرسمها .. ساعات .. و ايام .. و نفس الابتسامة على خدها ، من غير ما تشتكي من ملل او تعب ، لأنها شافت ان الفنان .. اللي كانت شهرته كل يوم يتزيد و بتزيد عن اليوم اللي قبله .. مليان بالبهجة و الحماس و هو بيشتغل في اللوحة ، و هي اللي بتحبه و بتحب تشوفه سعيد .. ما قدرتش تشتكي و تقطع سعادته و حماسه ، و فضلت تزداد كل يوم ضعف عن اللي قبله ، فضلت روحها تنزل بصمت مع جسمها اللي بيضعف ، كل اللي شاف اللوحة و هي بتكمل ، اتكلم عن مدى صدقها في الشبه ليها ، زي ما تكون انسان بجد ، كانت اللوحة بتخطف البصر و ما بتسيبش لحد الفرصة يلاحظ شحوب البنت و حالتها اللي بتنزل تدريجيا ، و مع اقتراب انتهاء الشغل .. ما بقاش فيه اي حد ايا كان ، مسموح له بدخول البرج .. و استمر الرسام في العمل ، و هو مسحور بفنه و بالمدى اللي وصلت له موهبته في اللوحة ، منع اي حد من الدخول و هو في المرحلة الاخيرة ، في الايام الاخيرة ، حتى ان عينه كانت بتترفع عن قماش اللوحة بشكل خاطف ، و ايده بتتمد بالريشة ، كان كل تركيزه على اتمام العمل و خرج من نطاق رؤيته بالكامل درجة الشحوب و التعب اللي وصلت ليها حبيبته .
خرج من نطاق رؤيته بالكامل ، ان اللون و الاشراق اللي ملا به وش حبيبته في اللوحة ، خرج من وشها في الحقيقة ، و بعد مرور ايام على الحالة دي ، و بعد ما خلاص ، ما فاضلش على انتهاء اللوحة غير فرشة او اتنين فوق البق ، و هنت خفيف فوق العين او هنا او هناك في الوش و الشعر ، الحبيبة ارتعشت روحها رعشة نهائية زي الشعلة ما بتهزها نسمة هوا في فتيل اللمبة ، و اخيرا ، الفرشة الاخيرة اتحطت ، و آخر اللمسات كملت ، و لمدة وقف الرسام زي ما يكون في رؤيا او متنوم مغناطيسيا ، وقف قدام شغله اللي انتهى ، قدام اللوحة اللي كملت ، و بعدين ارتجف من الاثارة ، وقف زي المرهوب من روعة العمل ، و بعدين لقا نفسه بيزعق بصوت عالي .. بيصرخ و هو باصص للوحة : دي الحياة نفسها ، دي بالتأكيد صورة حية قد الحياة نفسها .
... بص فجأة لحبيبته علشان يشوف اثر اللوحة الرائعة عليها ........ كانت ميتة .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق